الليل في الإسلام منزلة كبيرة, فقد أقسم الله –تعالى- به كثيرا في كتابه الكريم, وفي ذلك دلالة واضحة على عظم شأنه وشرف وقته ومدي تأثيره في الكون, فقال سبحانه: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) [المدَّثر:33], (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) [التَّكوير:17], (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) [الانشقاق:17], (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) [الفجر:4], (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) [الشمس:4], (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) [الليل:1], (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) [الضُّحى:2].. وورد ذكر الليل في القرآن اثنتين وتسعين مرة أكثر من النهار الذي ورد ذكره سبعا وخمسين مرة.. وفي الليل كانت معجزة الإسراء والمعراج (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) [الإسراء:1].
وفي الليل كانت مناجاة الله لكليمه موسى عليه السلام: (إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ) [طه:10].. والليل يبدأ قبل النهار في حضارة المسلمين ودينهم وتراثهم, فيصلون التراويح في الليلة التي يرون فيها هلال رمضان ويبدأون التكبير من ليلة العيد.
وفي الليل تسري طاقات الأنوار التي يتجلي بها الله على خلقه, كما يقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر (البخاري ومسلم).. والمحظوظون هم الذين يأتون بأوعية قلوبهم لتنهل من هذه المنح الصمدانية وتتعرض للتجليات الإحسانية, وقد مدحهم الله فقال: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ) [السجدة:16], وقال: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات:17].
وأعظم مثال فيذلك هو النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فمع أن النبوة وهب لا كسب، ومنحة لا يأتي بها طلب, وعطية لا يقوم لها اجتهاد, إلا أن الله ألهم نبيه التهجد قبل بعثته الشريفة, فكان يتعبد ربه في غار حراء الليالي ذوات العدد, ليتزامن العطاء مع الاجتهاد, ويكون ليل المتهجدين توطئة لنفحات القرب ونسائم الوصل, وبعد النبوة قام الليل حتى تورمت قدماه الشريفتان, شكرا لله على عطائه, وحمدا لله على نعمائه, قال القشيري: لما كان تعبده -صلى الله عليه وآله وسلم- وتهجده بالليل جعل الحق سبحانه المعراج بالليل (أ. هـ).
وعلى هذا جرت سنة الله –تعالى- في الفتح على أوليائه ميراثا محمديا -كما يقول أهل الله- فلا تنعقد ولاية لولي إلا ليلا, ويقول شاعر الإسلام محمد إقبال كن مع من شئت في العلم والحكمة, ولكنك لن ترجع بطائل حتى يكون لك أنة في السحر.
ومن أعظم مظاهر شرف الليل, أن الله أنزل فيه القرآن, فالقرآن يحب الليل, وحبه لليالي رمضان وعشره الأواخر أشد (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ) [ البقرة:185], ويبلغ الحب أشده وذروته في ليلة القدر, وهي ذلك الوقت الشريف الذي اختاره الله لنزول القرآن, حيث بلغت الطاقات النورانية أعلى درجاتها, قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ) [القدر:1].
وكانت ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من رمضان, كما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان, وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان, والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان, وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان (رواه الإمام أحمد), وهي ليلة القدر الكبرى, ومن أجل ذلك كانت أعظم التجليات الإلهية من الله على عباده في الليالي الرمضانية, وهذا سر اختيار النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذه الليالي لتهجده قبل البعثة, حيث ألهمه الله أن يكون تعبده شهرا في السنة هو شهر رمضان, كما رواه ابن إسحاق في (السيرة).
ومن أجل ذلك, أمر الله بقراءة القرآن والقيام به في الليل, وأخبر أن طبيعة الليل أنسب بالقرآن لألفاظه وفهما لمعانيه وتحملا لتكاليفه, فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآَنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) [المزمل:1-6], و(ناشئة الليل) هي تلك النفوس التي يربيها الليل وينشئها على قرآنه, وهي أيضا تلك الواردات الروحانية والخواطر النورانية التي تنكشف في ظلمة الليل -كما يقول الإمام الرازي في تفسيره- فتلك النفوس الصادقة التي أنشأتها وهذبتها وربتها أنوار القرآن الليلية (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا), أي أعظم ثباتا وتأثيرا, فهي أكثر إدراكا في وعيها وأكبر نجاحا في سعيها, (وَأَقْوَمُ قِيلًا) قد رزقت الإخلاص في القصد والسداد في القول والإجابة في الدعاء, كما جاء في الحديث: أشراف أمتي: حملة القرآن وأصحاب الليل (الطبراني والبيهقي), وفي القراءة الصحيحة الأخرى (هي أشد وطاء) أي مواطأة واتساقا وتواؤما وانسجاما, وهذا الانسجام كما يحصل بين القلب واللسان والجوارح عند القراءة, فإنه يحصل أيضا من التوافق بين الأمر الشرعي بالقراءة ليلا وبين الأمر الكوني في نزول القرآن ليلا, فكلما كانت قراءة المسلم للقرآن بالليل, زاد اتساقه مع الكون, ويزداد الاتساق بقراءته في ليل رمضان, حتى يصل إلى ليلة القدر التي هي أعظم من ألف شهر.
1- ما أحوجنا ونحن مقبلون على أفضل شهور السنة, شهر رمضان المعظم, أن نبدأ بالرجوع إلى الله تعالى والإنابة إليه, حتى إذا ما دخل علينا شهر الصوم يجدنا وقد أنابت قلوبنا إلى الله تعالى, واستعدت لتلقي النفحات الإلهية والمنح الصمدانية, فيقبلنا الله سبحانه عنده بقبول حسن, والعطاء إنما يكون لصاحب الحاجة, ولذلك قال عز وجل: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ) [التوبة:60].
فإذا استشعرنا حاجتنا إلى رحمات الله ومغفرته ورضوانه أغدق الله علينا الفضل وجاد علينا بالكرم, فالعطايا الإلهية تستمطر بافتقار القلوب إلى الله تعالى والشعور بالخضوع له سبحانه, كما قال موسى عليه السلام: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص:24], وكما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ) [فاطر:15], فافتقار الإنسان إلى الله سبب للاستغناء به عما سواه.
2- وقد أمر الله عز وجل عباده بالإنابة إليه, ووصف بذلك أنبياءه وعباده الصالحين, فأضاف الإنابة إلى حبيبه المصطفى ونبيه المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم (ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [الشُّورى:10], ووصف بها إبراهيم عليه السلام (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) [هود:75], وداود وسليمان عليهما السلام (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) [ص:24], (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) [ص:34], وشعيبا عليه السلام (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88], وجاء الأمر الإلهي باتباع طريق المنيبين في قوله سبحانه: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) [لقمان:15], ووعد الله تعالى صاحب القلب المنيب بالجنة فقال: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [ق:32-33].
3- والمسلم مأمور بالإمعان في تدبر آيات القرآن, والتعامل مع كلام الله عز وجل كلمة كلمة, والوقوف عندها تفكرا ونظرا, وعليه أن يتفاعل مع الأوامر الإلهية بعمل برامج لتنفيذها, فإذا قرأ قوله سبحانه وتعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزُّمر:54]، فعليه أن يقف مع نفسه ومع ربه ليضع برنامجا لكيفية الإنابة إلى الله تعالى, ولذلك كما كانت الإنابة إلى الله تعالى حالة ينبغي للعبد أن يكون عليها مع ربه فإنها أيضاً عند أهل الله تعالى مرحلة من مراحل الطريق إلى الله سبحانه. وهذه المرحلة تأتي بعد اليقظة, والتوبة, والمحاسبة, وأصل الإنابة في اللغة يدل على الرجوع, وهي تدور في كلام أهل الله على أربعة معان: المحبة, والخضوع, والإقبال على الله, والإدبار عما سوى الله.
4- وأعظم ما تتجلى الإنابة في الصلاة, ولذلك جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمود الأمر وأهم شيء فيه, وقال في شأنها: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, فمن تركها فقد كفر رواه الترمذي من حديث بريدة رضي الله عنه وقال: حديث حسن صحيح غريب, وإنما لم يقل (فهو كافر) رأفة بالأمة, فلو قالها لخرج تارك الصلاة من الملة, لكنه قال: فقد كفر,أي: ارتكب عملاً فظيعاً شنيعاً من أعمال الكفار, وقال تعالى في عظم شأن الصلاة: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ) [البقرة:45], ولذلك جمع الإمام الحافظ محمد بن نصر المروزي [ت294 هـ] الأحاديث الدالة على تعظيم شأن الصلاة في كتابه القيم تعظيم قدر الصلاة.
5- وشهر رمضان هو شهر الصلاة وشهر القيام حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرغب الناس في قيام رمضان ويقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وقد سن سيدنا عمر للأمة في رمضان هيئة صلاة التراويح وكيفيتها, فهي سنة نبوية في أصلها, عمرية في كيفيتها, وهي من الأدلة المتكاثرة على أنه ليس كل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون بدعة, بل البدعة منقسمة على بدعة محمودة وبدعة مذمومة, كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده, من غير أن ينقص من أجورهم شيء, ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده, من غير أن ينقص من أوزارهم شيء رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
6- والصلاة دليل الإنابة, وهذه الدلالة تظهر في استقبال القبلة, فإن ذلك يذكرك بالإقبال على الله وأنت فيها, حيث جعل الله لك وجهة تتوجه إليها فلا تصلى إلى أي مكان, وكان من الممكن أن تكون القبلة في اتجاه آخر, كما كان من الممكن أن تكون صحيحة في أي اتجاه, ولكنه سبحانه وتعالى جعلها إلى جهة الكعبة وحدها, إشارة إلى الإقبال والتوجه, فالصلاة تلفتك بالاستقبال إلى الإقبال. وفي الوقت نفسه وأنت مستقبل القبلة تكون مستدبرا العالم, وعندما تقول: الله أكبر يحرم عليك الكلام والأكل والشرب والعبث واللعب (وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238]، يعني ساكتين, فكما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس, إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن أخرجه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي.
لقد أشارت الصلاة إلى المحبة بالعطاء, وأشارت إلى الخضوع بالسجود, وأشارت إلى الإقبال بالاستقبال, وأشارت إلى التبري مما سوى الله بالإدبار, وهذه هي حقيقة الإنابة.